سورة فاطر - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


هذه السورة مكية. ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين، وأنزلهم منازل العذاب، تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ووصفه بعظيم آلائه، كما في قوله: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وقرأ الضحاك والزهري: فطر، جعله فعلاً ماضياً ونصب ما بعده. قال أبو الفضل الرازي: فأما على إضمار الذي فيكون نعتاً لله عز وجل، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال. انتهى. وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين، وأما الحال فيكون حالاً محكية، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو فطر، وتقدم شرح {فاطر السموات والأرض}، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن، والسموات والأرض عبارة عن العالم.
وقال أبو عبد الله الرازي: الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة، ونعم الله عاجلة، و{الحمد لله الذين خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله: {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً} و{الحمد لله الذين أنزل على عبده الكتاب} إشارة إليها أيضاً، وهي الاتقاء، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب. والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر، ودليله: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها} منها، وقوله: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة، ودليله: {وتتلقاهم الملائكة} ففاطر السموات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء، وخروج الأجساد من الأرض دليله: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة}: أي في ذلك اليوم. فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب. ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة.
وقرأ الحسن: جاعل بالرفع، أي هو جاعل؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو: وجاعل رفعاً بغير تنوين، الملائكة نصباً، حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن يعمر، وخليد بن نشيط: جعل فعلاً ماضياً، الملائكة نصباً، وذلك بعد قراءته فاطر بألف، والجر كقراءة من قرأ: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً} وقرأ الحسن، وحميد بن قيس: رسلاً بإسكان السين، وهي لغة تميم. وقال الزمخشري: وقرئ الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة. فمن قرأ: فطر وجعل، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخباراً من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم، كما تقول: الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل، كذلك يكون في قوله: فطر، جعل، لأن في ذلك نعماً لا تحصى. ومن قرأ: وجاعل، فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي، فيكونان صفة لله، ويجيء الخلاف في نصب رسلاً.
فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل، وإن كان ماضياً لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني. ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلاً. وقيل: هو مستقبل تقديره: يجعل الملائكة رسلاً، ويكون أيضاً إعرابه بدلاً. ومعنى رسلاً بالوحي وغيره من أوامره، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلاً. فمن الرسل: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، والملائكة المتعاقبون، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والاقرع.
و {أجنحة} جمع جناح، صيغة جمع القلة، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملاً في القليل والكثير. وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعاً، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا، فقال الزمخشري: مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر، كما عدل عمر عن عامر، وحذام عن حاذمة، وعن تكرير إلى غير تكرير. وأما بالوصفية، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها؟ انتهى. فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل. وأما قوله: ألا تراك، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة، وليس بصحيح، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة، بل اشترطوا فيه. فليس الشرط موجوداً في أربع، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث. وليس شرطه في ثلاثة موجوداً، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث. فقياس الزمخشري قياس فاسد، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة. وقال ابن عطية: عدلت عن حال التنكير، فتعرفت بالعدل، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل: للعدل والصفة. انتهى. وهذا الثاني هو المشهور، والأول قول لبعض الكوفيين. والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان، وآخر ثلاثة، وآخر أربعة، وآخر أكثر من ذلك، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب. قال قتادة: وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلاً: يطالع ذلك في كتابه. وقالت فرقة: المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة. وقيل: بل هي ثلاثة لواحد، كما يوجد لبعض الحيوانات. والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة.
وقال أبو عبد الله الرازي: يزيل بحثه في قوله: {الحمد لله فاطر السموات والأرض}، وهو الذي حكينا عنه أن قوله: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع}، أقل ما يكون لذي الجناح، إشارة إلى الجهة، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه، وكل شيء تحت قدرته ونعمته، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله، كما قال تعالى: {نزل به الروح الأمين على قبلك} وقوله: {علمه شديد القوى} وقال تعالى في حقهم: {فالمدبرات أمراً} فهما جناحان، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة، وفيهم من يفعله لا بواسطة. فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات، ومنهم من له أربع جهات وأكثر. انتهى. وبحثه في هذه، وفي {فاطر السموات والأرض} بحث عجيب، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل. والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة، وقيل: {أولي أجنحة} معترض، و{مثنى} حال، والعامل فعل محذوف يدل عليه {رسلاً}، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع. قيل: وإنما جعلهم أولي أجنحة، لأنه لما جعلهم رسلاً، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء. فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير.
{يزيد في الخلق ما يشاء}: تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء، والظاهر عموم الخلق. وقال الفراء: هذا في الأجنحة التي للملائكة، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة. وقالوا: في هذه الزيادة الخلق الحسن، أو حسن الصوت، أو حسن الخط، أو لملاحة في العينين أو الأنف، أو خفة الروح، أو الحسن، أو جعودة الشعر، أو العقل، أو العلم، أو الصنعة، أو العفة في الفقراء، والحلاوة في الفم، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر. والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة، وما يشاء عام لا يخص مستحسناً دون غيره. وختم الآية بالقدرة على كل شيء يدل على ذلك، والفتح والإرسال استعارة للإطلاق، {فلا مرسل له} مكان لا فاتح له، والمعنى: أي شيء يطلق الله.
{من رحمة}: أي نعمة ورزق، أو مطر، أو صحة، أو أمن، أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها. وما روي عن المفسرين المتقدمين من تفسير رحمة بشيء معين فليس على الحصر منه، إنما هو مثال. قال الزمخشري: وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، فلا يقدر أحد على إمساكها وحبسها، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. انتهى. والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو، وهو مما اجتزئ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط، وتقديره: من الرحمات، ومن في موضع الحال، أي كائناً من الرحمات، ولا يكون في موضع الصفة، لأن اسم الشرط لا يوصف.
والظاهر أن قوله: {وما يمسك} عام في الرحمة وفي غيرها، لأنه لم يذكر له تبيين، فهو باق على العموم في كل ما يمسك. فإن كان تفسيره {من رحمة}، وحذفت لدلالة الأول عليه، فيكون تذكير الضمير في {فلا مرسل له من بعده} حملاً على لفظ ما، وأنث في {ممسك لها} على معنى ما، لأن معناها الرحمة. وقرئ: فلا مرسل لها، بتأنيث الضمير، وهو دليل على أن التفسير هو {من رحمة}، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وعن ابن عباس: {من رحمة}: من باب توبة، {فلا ممسك لها}: أي يتوبون إن شاؤوا وإن أبوا، {وما يمسك}: من باب، {فلا مرسل له} من بعده، فهم لا يتوبون. وعنه أيضاً: {من رحمة}: من هداية. قال الزمخشري: فإن قلت: فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس؟ قلت: أراد بالتوبة: الهداية لها والتوفيق فيها، وهو الذي أراده ابن عباس، إن قاله فمقبول، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب فمردود، لأن الله تعالى يشاء التوبة أبداً، ولا يجوز عليه أن لا يشاء بها. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {من بعده}: هو على حذف مضاف، أي من بعد إمساكه، كقوله: {فمن يهديه من بعد الله} أي من بعد إضلال الله إياه، لأن قبله وأضله الله على علم، كقوله: {ومن يضلل الله فلا هادي له} وقدره الزمخشري من بعد هداية الله، وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية، جرى فيه على طريقة الاعتزال. {وهو العزيز} الغالب القادر على الإرسال والإمساك، {الحكيم} الذي يرسل ويمسك ما اقتضته حكمته.
{يا أيها الناس}: خطاب لقريش، وهو متجه لكل مؤمن وكافر، ولا سيما من عبد غير الله، وذكرهم بنعمه في إيجادهم. و{اذكروا}: ليس أمراً بذكر اللسان، ولكن به وبالقلب وبحفظ النعمة من كفرانها وشكرها، كقولك لمن أنعمت عليه: اذكر أياديّ عندك، تريد حفظها وشكرها، والجميع مغمورون في نعمة الله. فالخطاب عام اللفظ، وإن كان نزل ذلك بسبب قريش، ثم استفهم على جهة التقرير. {هل من خالق غير الله}: أي فلا إله إلا الخالق، ما تعبدون أنتم من الأصنام. وقرأ ابن وثاب، وشقيق، وأبو جعفر، وزيد بن علي، وحمزة، والكسائي: غير بالخفض، نعتاً على اللفظ، {ومن خالق} مبتدأ. و{يرزقكم}: جوزوا أن يكون خبراً للمبتدأ، وإن يكون صفته، وأن يكون مستأنفاً، والخبر على هذين الوجهين محذوف تقديره لكم. وقرأ شيبة، وعيسى، والحسن، وباقي السبعة: {غير} بالرفع، وجوزوا أن يكون نعتاً على الموضع، كما كان الخبر نعتاً على اللفظ، وهذا أظهر لتوافق القراءتين؛ وأن يكون خبراً للمبتدأ، وأن يكون فاعلاً باسم الفاعل الذي هو خالق، لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، فحسن إعماله، كقولك: أقائم زيد في أحد وجهيه؟ وفي هذا نظر، وهو أن اسم الفاعل، أو ما جرى مجراه، إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل، فرفع ما بعده، هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فتقول: هل من قائم الزيدون؟ كما تقول: هل قائم الزيدون؟ والظاهر أنه لا يجوز.
ألا ترى أنه إذا جرى مجرى الفعل، لا يكون فيه عموم خلافه إذا أدخلت عليه من، ولا أحفظ مثله في لسان العرب، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلام العرب؟ وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي: غير بالنصب على الاستثناء، والخبر إما يرزقكم وإما محذوف، ويرزقكم مستأنف؛ وإذا كان يرزقكم مستأنفاً، كان أولى لانتفاء صدق خالق على غير الله، بخلاف كونه صفة، فإن الصفة تقيد، فيكون ثم خالق غير الله، لكنه ليس برازق. ومعنى {من السماء}: بالمطر، {والأرض}: بالنبات، {لا إله إلا هو}: جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب. {فأنى يؤفكون}: أي كيف يصرفون على التوحيد إلى الشرك، وأن يكذبوك إلى الأمور، تقدم الكلام على ذلك.
{إن وعد الله حق}: شامل لجميع ما وعد من ثواب وعقاب وغير ذلك. وقرأ الجمهور: {الغرور} بفتح الغين، وفسره ابن عباس بالشيطان. وقرأ أبو حيوة، وأبو السمال: بضمها جمع غار، أو مصدراً، كقوله: {فدلاهما بغرور} وتقدم الكلام على ذلك في آخر لقمان. {إن الشيطان لكم عدو}: عداوته سبقت لأبينا آدم، وأي عداوة أعظم من أن يقول في بنيه: {لأغوينهم أجمعين} {ولأضلنهم} {فاتخذوه عدواً}: أي بالمقاطعة والمخالفة باتباع الشرع. ثم بين أن مقصوده في دعاء حزبه إنما هو تعذيبهم في النار، يشترك هو وهم في العذاب، فهو حريص على ذلك أشد الحرص حتى يبين صدق قوله في: {فلاغوينهم}، {ولأضلنهم}، لأن الاشتراك فيما يسوء مما قد يتسلى به بخلاف المنفرد بالعذاب. ثم ذكر الفريقين، وما أعدّ لهما من العقاب والثواب. وبدأ بالكفار لمجاورة قوله: {إنما يدعو حزبه}، فاتبع خبر الكافر بحاله في الآخرة. قال ابن عطية: واللام في ليكون لام الصيرورة، لأنه لم يدعهم إلى السعير، إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك. انتهى. ونقول: هو مما عبر فيه عن السبب بما تسبب عنه دعاؤهم إلى الكفر، وتسبب عنه العذاب. و{الذين كفروا}، {والذين آمنوا}. مبتدآن، وجوز بعضهم في {الذين كفروا} أن يكون في موضع خفض بدلاً {من أصحاب السعير}، أو صفة، وفي موضع نصب بدلاً من {حزبه}، وفي موضع رفع بدلاً من ضمير {ليكونوا}، وهذا كله بمعزل من فصاحة التقسيم وجزالة التركيب.
{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً}: أي فرأى سوء عمله حسناً، ومن مبتدأ موصول، وخبره محذوف. فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير: كمن لم يزين له، كقوله: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله} {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} {أَو من كان ميتاً فأحييناه} ثم قال: {كمن مثله في الظلمات} وقاله الكسائي، أي تقديره: تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة: {فلا تذهب نفسك عليهم}. وقيل: التقدير: فرآه حسناً، فأضله الله كمن هداه الله، فحذف ذلك لدلالة: {فإن الله يضل من يشاء}، وذكر هذين الوجهين الزجاج. وشرح الزمخشري هنا {يضل من يشاء} على طريقته في غير موضع من كتابه، من أن الإضلال هو خذلانه وتخليته وشأنه، وأتى بألفاظ كثيرة في هذا المعنى. وقرأ الجمهور: {أفمن زين} مبنياً للمفعول سوء رفع. وقرأ عبيد بن عمير: زين له سوء، مبنياً للفاعل، ونصب سوء؛ وعنه أيضاً أسوأ على وزن أفعل منصوباً؛ وأسوأ عمله: هو الشرك. وقراءة طلحة: أمن بغير فاء، قال صاحب اللوامح: للاستخبار بمعنى العامة للتقرير، ويجوز أن يكون بمعنى حرف النداء، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب. انتهى. ويعني بالجواب: خبر المبتدأ، وبالتمام: ما يؤدي لأجله، أي تفكر قومه، ووجوب إلى الله، {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} تسلية للرسول عن كفر قومه، ووجوب التسليم لله في إضلاله من يشاء وهداية من يشاء. وقرأ الجمهور: {فلا تذهب نفسك}، مبنياً للفاعل من ذهب، ونفسك فاعل. وقرأ أبو جعفر، وقتادة، وعيسى، والأشهب، وشيبة، وأبو حيوة، وحميد والأعمش، وابن محيصن: تذهب من أذهب، مسند الضمير المخاطب، نفسك: نصب، ورويت عن نافع: والحسرة هم النفس على فوات أمر. وانتصب {حسرات} على أنه مفعول من أجله، أي فلا تهلك نفسك للحسرات، وعليهم متعلق بتذهب، كما تقول: هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً، أو هو بيان للمتحسر عليه، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر، فلا يتقدّم معموله. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون حالاً، كأنه كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهن مع السرى *** حتى ذهبن كلاكلاً وصدرواً
يريد: رجعن كلاكلاً وصدوراً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها، ومنه قوله:
فعلى إثرهم تساقط نفسي *** حسرات وذكرهم لي سقام
انتهى. وما ذكر من أن كلاكلاً وصدوراً حالان هو مذهب سيبويه. وقال المبرد: هو تمييز منقول من الفاعل، أي حتى ذهبت كلاكلها وصدورها. ثم توعدهم بالعقاب على سوء صنعهم فقال: {إن الله عليم بما يصنعون}: أي فيجازيهم عليه.


القمطير: المشهور أنه القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة، ويأتي ما قال المفسرون. الجدد: جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل، كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً. وقال الزمخشري: والجدد: الخطط والطرائق. وقال لبيد: أو مذهب جدد على الواحد، ويقال: جدة الحمار للخطة السوداء التي على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه. انتهى. وقال الشاعر:
كأن مبرات وجدة ظهره *** كنائن يجري بينهن دليص
الجدة: الخط الذي في وسط ظهره، يصف حمار وحش. الغربيب: الشديد السواد. لغب يلغب لغوباً: أعيا.
{والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلسبونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسعموا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير}.
لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة، ذكر أشياء من الأمور الأرضية: الرياح وإسالها، وفي هذا احتجاج على منكري البعث. دلهم على المثال الذي يعاينونه، وهو وإحياء الموتى سيان. وفي الحديث: «أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: هل مررت بوادي أهلك محلاً، ثم مررت به يهتز خضراً؟ فقالوا: نعم، فقال: فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه».
قيل: {أرسل} في معنى يرسل، ولذلك عطف عليه {فتثير}. وقيل: جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية، ومنه فتصبح الأرض مخضرة. قال الزمخشري: وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب، أو يتهم المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شراً:
بأني قد لقيت الغول تهوي *** بشهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلاد هش فخرت *** صريعاً لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول، وثباته عند كل شدّة.
وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها. لما كان من الدلائل على القدرة الباهرة وقيل: فسقنا وأحيينا، معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: أي أرسل بلفظ الماضي. لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله: كن، لا يبقى زماناً ولا جزء زمان، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه، ولأنه فرغ من كل شيء، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند الإثارة إلى الريح، وهي تؤلف في زمان، قال: {فتثير}، وأسند {أرسل} إلى الغائب، وفي {فسقناه}، و{فأحيينا} إلى المتكلم، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال، ثم لما عرف قال: أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض. ففي الأول تعريف بالفعل العجيب، وفي الثاني تذكير بالبعث. وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل. انتهى. وهذا الذي ذكر من الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم: {ألله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً} وفي الأعراف {وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته} كيف جاء في الإرسال بالمضارع؟ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة. وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات، وكذلك ما في الأعراف {سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} وأما قوله: وما يفعله تعالى إلى آخره، وكل فعل، وإن كان أسند إلى غيره مجازاً، فهو فعله حقيقة، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته، وبين ما يسند إلى غيره، لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه. والنشور، مصدر نشر: الميت إذا حيي، قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجباً للميت الناشر
والنشور: مبتدأ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر، والتشبيه وقع لجهات لما قلبت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاء تقبل الحياة. أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء؛ أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت، يسوق الروح والحياة إلى البدن. {من كان يريد العزة}: أي المغالبة، {فالله العزة}: أي ليست لغيره، ولا تتم إلا به، والمغالب مغلوب. ونحا إليه مجاهد وقال: {من كان يريد العزة} بعبادة الأوثان، وهذا تمثيل لقوله: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً} وقال قتادة: {من كان يريد العزة} وطريقها القويم ويحب نيلها، {فالله العزة}: أي به وعن أمره، لاتنال عزته إلا بطاعته.
وقال الفراء: من كان يريد علم العزة، {فالله العزة}: أي هو المتصف بها. وقيل: {من كان يريد العزة}: أي لا يعقبها ذلة، ويصار بها للذلة. وقال الزمخشري: كان الكافرون يتعززون بالأصنام، كما قال عز وجل: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً} والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال: {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم فإن العزة لله جميعاً} فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} انتهى. ولا تنافي بين قوله: {فإن العزة لله جميعاً} وإن كان الظاهر أنها له لا لغيره، وبين قوله {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وإن كان يقتضى الاشتراك، لأن العزة في الحقيقة لله بالذات، وللرسول بواسطة قربه من الله، وللمؤمنين بواسطة الرسول. فالمحكوم عليه أولاً غير المحكوم عليه ثانياً. ومن اسم شرط، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفاً، والجواب محذوف تقديره على حسب تلك الأقوال السابقة. فعلى قول مجاهد: فهو مغلوب، وعلى قول قتادة: فيطلبها من الله، وعلى قول الفراء: فلينسب ذلك إلى الله، وعلى القول الرابع: فهو لا ينالها؛ وحذف الجواب استغناء عنه بقوله: {فللََّه العزة جميعاً}، لدلالته عليه. والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة: فليطلبها من العزة له يتصرف فيها كما يريد، كما قال تعالى: {وتعز من تشاء وتذل من تشاء} وانتصب جميعاً على المراد، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة.
و {الكلم الطيب}: التوحيد والتحميد وذكر الله ونحو ذلك. وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: ثناء بالخير على صالحي المؤمنين. وقال كعب: إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها. وقرأ الجمهور: {يصعد}، مبنياً للفاعل من صعد؛ {الكلم الطيب}: مرفوعاً، فالكلم جمع كلمة. وقرأ علي، وابن مسعود، والسلمي، وإبراهيم: يصعد من أصعد، الكلام الطيب على البناء للمفعول. انتهى. وقرأ زيد بن علي: يصعد من صعد الكلام: رقي، وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه، لأنه تعالى ليس في جهة، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأن الصعود من الاجرام يكون، وإنما ذلك كناية عن القبول، ووصفه بالكمال. كما يقال: علا كعبة وارتفاع شأنه، ومنه ترافعوا إلى الحاكم، ورفع الأمر إليه، وليس هناك علو في الجهة.
وقرأ الجمهور: والعمل الصالح يرفعهما. فالعمل مبتدأ، ويرفعه الخبر، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح، وضمير النصب يعود على الكلم، أي يرفع الكلم الطيب، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك. وقال الحسن: يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل قبل، وإن خالف رد. وعن ابن عباس نحوه، قال: إذ اذكر الله العبد وقال كلاماً طيباً وأدّى فرائضه، ارتفع قوله مع عمله؛ وإذا قال ولم يؤدّ فرائضه، رد قوله على عمله؛ وقيل: عمله أولى به.
قال ابن عطية: وهذا قول يرده معتقد أهل السنة، ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن القاضي لفرائضه إذ ذكر الله وقال كلاماً طيباً، فإنه مكتوب له متقبل، وله حسناته وعليه سيئآته، والله يتقبل من كل من اتقى الشرك. وقال أبو صالح، وشهر بن حوشب عكس هذا القول: ضمير الفاعل يعود على الكلم، وضمير النصب على العمل الصالح، أي يرفعه الكلم الطيب. وقال قتادة: إن الفاعل هو ضمير يعود على الله، والهاء للعمل الصالح، أي يرفعه الله إليه، أي يقبله. وقال ابن عطية: هذا أرجح الأقوال. وعن ابن عباس: والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه، فجعله على حذف مضاف. ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفاً على الكلم الطيب، أي يصعدان إلى الله، ويرفعه استئناف إخبار، أي يرفعهما الله، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة، فيكون لفظه مفرداً، والمراد به التثنية، فكأنه قيل: ليس صعودهما من ذاتهما، بل ذلك برفع الله إياهما. وقرأ عيس، وابن أبي عبلة: والعمل الصالح، بنصبهما على الاشتغال، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله، ومكر لازم، والسيئات نعت لمصدر محذوف، أي المكرات السيئات، أو المضاف إلى المصدر، أي أضاف المكر إلى السيئات، أو ضمن يمكرون معنى، يكتسبون، فنصب السيئات مفعولاً به. وإذا كانت السيئات نعتاً لمصدر، أو لمضاف لمصدر، فالظاهر أنه عنى به مكرات قريش في دار الندوة، إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات، وهي المذكورة في الأنفال: إثباته، أو قتله، أو إخراجه؛ و{أولئك} إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات. {يبور}: أي يفسد ويهلك دون مكر الله بهم، إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وقوله: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} وهو مبتدأ، أو يبور خبره، والجملة خبر عن قوله: {ومكر أولئك}. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون هو فاصلة، ويبور خبر، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما يكون ما بعدها فعلاً، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له، فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلاً وردّ ذلك عليه.
{والله خقلكم من تراب}: من حيث خلق أبينا آدم. {ثم من نطفة}: أي بالتناسل. {ثم جعلكم أزواجاً}: أي أصنافاً ذكراناً واناثاً، كما قال: {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} وقال قتادة: قدّر بينكم الزوجية، وزوّج بعضكم بعضاً، ومن في {من معمر} زائدة، وسماه بما يؤول إليه، وهو الطويل العمر. والظاهر أن الضمير في {من عمره} عائد على معمر لفظاً ومعنى.
وقال ابن عباس وغيره: يعود على معمر الذي هو اسم جنس، والمراد غير الذي يعمر، فالقول تضمن شخصين: يعمر أحدهما مائة سنة، وينقص من الآخر. وقال ابن عباس أيضاً، وابن جبير، وأبو مالك: المراد شخص واحد، أي يحصي ما مضى منه إذ مر حول كتب ذلك ثم حول، فهذا هو النقص، وقال الشاعر:
حياتك أنفاس تعدّ فكلما *** مضى نفس منك انتقصت به جزءا
وقال كعب الاحبار: معنى {ولا ينقص من عمره}: لا يخترم بسببه قدره الله، ولو شاء لأخر ذلك السبب. وروي أنه قال، لما طعن عمر رضي الله عنه: لو دعا الله لزاد في أجله، فأنكر المسامون عليه ذلك وقالوا: إن الله تعالى يقول: {فإذا جاء أجهلم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} فاحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين، وبنحوه تمسك المعتزلة. وقرأ الجمهور: ولا ينقص، مبنياً للمفعول. وقرأ يعقوب، وسلام، وعبد الوارث، وهارون، كلاهما عن أبي عمرو: ولا ينقص، مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن: {من عمر إلا في كتاب}. قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد كتاب الله علم الله، أو صحيفة الإنسان. انتهى.
{وما يستوي البحران}: هذه آية أخرى يستدل بها على كل عاقل أنه مما لا مدخل لصنم فيه. وتقدم شرح: {هذا عذب فرات} وشرح: {وهذا ملح أجاج} في سورة الفرقان. وهنا بين القسمين صفة للعرب، وبين قوله: {سائغ شرابه}. وقرأ الجمهور: سائغ، اسم فاعل من ساغ. وقرأ عيسى: سيغ على وزن فيعل، كميت؛ وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم. وقرأ عيسى أيضاً: سيغ مخففاً من المشدد، كميت مخفف ميت. وقرأ الجمهور: ملح، وأبو نهيك وطلحة: بفتح الميم وكسر اللام، وقال أبو الفضل الرازي: وهي لغة شاذة، ويجوز أن يكون مقصوراً من مالح، فحذف الألف تخفيفاً. وقد يقال: ماء ملح في الشذوذ، وفي المستعمل: مملوح. وقال الزمخشري: ضرب البحرين، العذب والملح، مثلين للمؤمن والكافر. ثم قال على صفة الاستطراد في صفة البحرين وما علق بها: من نعمته وعطائه. {ومن كل}، من شرح الزمخشري: ألفاظاً من الآية تكررت في سورة النحل. ثم قال: ويحتمل غير طريقة الاستطراد، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ، وجرى الفلك فيه. وللكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك} الآية. انتهى. {لتبتغوا من فضله}: يريد التجارات والحج والغزو، أو كل سفر له وجه شرعي.
{يولج الليل في النهار}: تقدم شرح هذه الجمل. ولما ذكر أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة، من إرسال الرياح، والإيجاد من تراب وما عطف عليه، وإيلاج الليل في النهار، وتسخير الشمس والقمر؛ أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله فقال: {ذلكم الله ربكم له الملك}، وهي أخبار مترادفة؛ والمبتدأ {ذلكم}، و{الله ربكم} خبران، و{له الملك} جملة مبتدأ في قران قوله: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير}.
قال الزمخشري: ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة وعطف بيان، وربكم خبر، لولا أن المعنى يأباه. انتهى. أما كونه صفة، فلا يجوز، لأن الله علم، والعلم لا يوصف به، وليس اسم جنس كالرجل، فتتخيل فيه الصفة. وأما قوله: لولا أن المعنى يأباه، فلا يظهر أن المعنى يأباه، لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم، أي مالكم، أو مصلحكم، وهذا معنى لائق سائغ، والذين يدعون من دونه هي الأوثان. وقرأ الجمهور: تدعون، بتاء الخطاب، وعيسى، وسلام، ويعقوب: بياء الغيبة. وقال صاحب الكامل أبو القاسم بن جبارة: يدعون بالياء، اللؤلؤي عن أبي عمرو وسلام، والنهاوندي عن قتيبة، وابن الجلاء عن نصير، وابن حبيب وابن يونس عن الكسائي، وأبو عمارة عن حفص. والقطمير، تقدم شرحه. وقال جويبر عن رجاله، والضحاك: هو القمع الذي في رأس التمرة. وقال مجاهد: لفافة النواة؛ وقيل: الذي بين قمع التمرة والنواة؛ وقيل: قشر الثوم؛ وأياً ما كان، فهو تمثيل للقليل، وقال الشاعر:
وأبوك يخفف نعله متوركاً *** ما يملك المسكين من قطمير
{لا يسمعوا دعاءكم}، لأنهم جماد؛ {ولو سمعوا}، هذا على سبيل الفرض؛ {ما استجابوا لكم}، لأنهم لا يدعون لهم من الإلهية، يتبرؤون منها. وقيل: ما نفعوكم، وأضاف المصدر: في شرككم، أي بإشراككم لهم مع الله في عبادتكم إياهم كقوله: {ما كنتم إيانا تعبدون} فهي إضافة إلى الفاعل. وقوله: {يكفرون}، يحتمل أن يكون بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة ناطق، ومدافعة كل محتج، فيجيء هذا على طريق التجوز، كقول ذي الرمة:
وقفت على ربع لمية ناطق *** تخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني أحجاره وملاعبه
{ولا ينبئك مثل خبير}، قال قتادة وغيره من المفسرين: الخبير هنا أراد به تعالى نفسه، فهو الخبير الصادق الخبر، نبأ بهذا، فلا شك في وقوعه. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: {ولا ينبئك مثل خبير} من تمام ذكر الأصنام، كأنه قال: فلا يخبرك مثل من يخبرك عن نفسه، أي لا يصدق في تبرئها من شرككم منها، فيريد بالخبير على هذا المثل لهما، كأنه قال: ولا ينبئك مثل خبير عن نفسه، وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء. وقال الزمخشري: لا يخبرك بالأمر مخبر، هو مثل خبير عالم به، يريد أن الخبير بالأمر هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى: أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق، لأني خبير بما أخبر به. وقال في التجريد: يحتمل وجهين: أن يكون ذلك خطاباً للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه، قال تعالى: {إنهم بربهم يكفرون}، أي يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمراً عجيباً هو كما قال، لأن المخبر عنه خبير. والثاني: أن يكون خطاباً ليس مختصاً بأحد، أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر، لا ينبئك أيها السامع كائناً من كنت مثل خبير.


هذه آية موعظة وتذكير، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإنعامه في جميع أحوالهم، لا يستغنى أحد عنه طرفة عين، وهو الغني عن العالم على الإطلاق. وعرّف الفقراء ليريهم شديد افتقارهم إليه، إذ هم جنس الفقراء، وإن كان العالم بأسره مفتقر إليه، فلضعفهم جعلوا كأنهم جميع هذا الجنس؛ ولو نكر لكان المعنى: أنتم، يعني الفقراء، وقوبل الفقراء بالغني، ووصف بالحميد دلالة على أنه جواد منعم، فهو محمود على ما يسديه من النعم، مستحق للحمد. ولما ذكر أنه الغني على الإطلاق، ذكر ما يدل على استغنائه عن العالم، وأنه ليس بمحتاج إليهم فقال: {إن يشأ يذهبكم}: أي إن يشأ إذهابكم يذهبكم، وفي هذا وعيد بإهلاكهم. {وما ذلك}: أي إذهابكم، والإتيان بخلق جديد {بعزيز}، أي بممتنع عليه، إذ هو المتصف بالقدرة التامة، فلا يمتنع عليه شيء مما يريده. ومعنى: {بخلق جديد}: بدلكم لقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} وعن ابن عباس: يخلق بعدكم من يعبده، لا يشرك به شيئاً. وقد جاء هذا المعنى من ذكر الإذهاب بعد وصفه تعالى بالغني في قوله تعالى: {وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء} وجاء أيضاً تعليق الإذهاب مختوماً آخر الآية بذكر القدرة الدالة على ذلك في قوله: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً} روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين: اكفروا بمحمد وعليّ وزركم، فنزلت. وأخبر تعالى، لا يحمله أحد عن أحد. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هذه الآية في الذنوب والجرائم. ويقال: وزر الشيء: حمله، ووازرة: صفة لمحذوف، أي نفس وازرة: حاملة، وذكر الصفة ولم يذكر الموصوف مقتصراً عليه، لأن المعنى: أن كل نفس لا ترى إلا حامله وزرها، لا وزر غيرها، فلا يؤاخذ نفساً بذنب نفس، كما يأخذ جبابرة الدنيا الجار بالجار، والصديق بالصديق، والقريب بالقريب. وقال ابن عطية: ومن تطرف من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمه، كفعل زياد ونحوه، فإنما ذلك ظلم، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بموازرة ومواصلة، أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب. انتهى. وكأن ابن عطية تأول أفعال زياد وما فعل في الإسلام، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجاج، ولا منافاة بين هذه الآية في العنكبوت، لأن تلك في الضالين المضلين يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، فكل ذلك أثقالهم، ما فيها من ثقل غيرهم شيء. ألا ترى: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} {وإن تدع مثقلة}: أي نفس مثقلة بحملها، {إلى حملها لا يحمل منه شيء}: أي لا غياث يومئذ لمن استغاث، ولا إعانة حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وزرها لم تجب وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها وهذه في نفي الإعانة والحمل ما كان على الظهر في الأجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر كقوله: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} كما جعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد. وقرأ الجمهور: يحمل بالياء، مبنياً للمفعول؛ وأبو السمال عن طلحة، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي: بفتح التاء من فوق وكسر الميم، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف، أي وإن تدع مثقلة نفساً أخرى إلى حملها، لم تحمل منه شيئاً. واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله: {وإن تدع}، هذا معنى قول الزمخشري، قال: وترك المدعو ليعم ويشمل كل مدعو. قال: فإن قلت: فكيف استفهام إضمار، ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقل؟ قلت: هو من العموم الكائن على طريق البلد. انتهى. وقال ابن عطية: واسم كان مضمر تقديره ولو كان. انتهى، أي ولو كان الداعي ذا قربى من المدعو، فإن المدعو لا يحمل منه شيئاً. وذكر الضمير حملاً على المعنى، لأن قوله: {مثقلة}، لا يريد به مؤنث المعنى فقط، بل كل شخص، فكأنه قيل: وإن تدع شخصاً مثقلاً. وقرئ: ولو كان ذو قربى، على أن كان تامة، أي ولو حضر إذا ذاك ذو قربى ودعته، لم يحمل منه شيئاً. وقالت العرب: قد كان لبن، أي حضر وحدث. وقال الزمخشري: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة، لأن المعنى: على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه، وإن كان مدعوها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم. ولو قلت: ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج عن اتساقه والتئامه. انتهى. وهو نسق ملتئم على التقدير الذي ذكرناه، وتفسيره كان، وهو مبني للفاعل، يؤخذ المبني للمفعول تفسير معنى، وليس مرادفاً ومرادفه، حدث أو حضر أو وقع، هكذا فسره النحاة.
ولما سبق ما تضمن الوعيد وبعض أهوال القيامة، كان ذلك إنذاراً، فذكر أن الإنذار إنما يجدي وينفع من يخشى الله. {بالغيب}: حال من الفاعل أو المفعول، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائباً عنهم. وقيل: بالغيب في السر، وقيل: بالغيب، أي وهو بحال غيبه عنهم إنما هي رسالة. وقرأ الجمهور: {ومن تزكى}، فعلاً ماضياً، {فإنما يتزكى}: فعلاً، مضارع تزكى، أي ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي، فإنما ثمرة ذلك عائدة عليه، وهو إنما زكاته لنفسه لا لغيره، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة.
وقرأ العباس عن أبي عمرو: ومن يزكى فإنما يزكى، بالياء من تحت وشدّ الزاي فيهما، وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى، أدغمت التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله: {يذكرون} وقرأ ابن مسعود، وطلحة: ومن ازكى، بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء؛ وطلحة أيضاً: فإنما يزكى، بإدغام التاء في الزاي. {وإلى الله المصير}: وعد لمن يزكى بالثواب.
{وما يستوي الأعمى والبصير} الآية: هي طعن على الكفرة وتمثيل. فالأعمى الكافر، والبصير المؤمن، أو الأعمى الصنم، والبصير الله عز وجل وعلا، أي لا يستوي معبودهم ومعبود المؤمنين. والظلمات والنور، والظل والحرور: تمثيل للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب. والأحياء والأموات، تمثيل لمن دخل في الإسلام ومن لم يدخل فيه. والحرور: شدّة حر الشمس. وقال الزمخشري: والحرور: السموم، إلا أن السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار؛ وقيل: بالليل. انتهى. وقال ابن عطية: قال رؤبة: الحرور بالليل، والسموم بالنهار، وليس كما قال، وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره: أن السموم يختص بالنهار. ويقال: الحرور في حر الليل، وفي حر النهار. انتهى. ولا يرد على رؤبة، لأنه منه تؤخذ اللغة، فأخبر عن لغة قومه. وقال قوم: الظل هنا: الجنة، والحرور: جهنم، ويستوي من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد. فدخول لا في النفي لتأكيد معناه لقوله: {ولا تستوي الحسنة والسيئة} وقال ابن عطية: دخول لا إنما هو على هيئة التكرار، كأنه قال: ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني، ودل مذكور الكلام على متروكه. انتهى. وما ذكر غير محتاج إلى تقديره، لأنه إذا نفى استواء الظلمات والنور، فأي فائدة في تقدير نفي استوائهما ثانياً وادعاء محذوفين؟ وأنت تقول: ما قام زيد ولا عمرو، فتؤكد بلا معنى النفي، فكذلك هذا. وقرأ زادان عن الكسائي: وما تستوي الأحياء، بتاء التأنيث؛ والجمهور: بالياء، وترتيب هذه المنفي عنها الاستواء في غاية الفصاحة. وذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر، ثم البصير. ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء، فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر، وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان. ثم ذكر مآلهما، وهو الظل، وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب.
ثم ذكر مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير، إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك مّا، والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً، فهو كالميت، ولذلك أعاد الفعل فقال: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات}، كأنه جعل مقام سؤال، وكرر لا فيما ذكر لتأكيد المنافاة. فالظلمات تنافي النور وتضاده، والظل والحرور كذلك، والأعمى والبصير ليس كذلك، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيراً. ثم يعرض له العمى، فلا منافاة إلا من حيث الوصف.
والمنافاة بين الظل والحرور دائمة، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد؛ فلما كانت المنافاة أتم، أكد بالتكرار. وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلاً للحياة، فيصير محلاً للموت. فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير، لأن هذين قد يشتركان في إدراك مّا، ولا كذلك الحي. والميت يخالف الحي في الحقيقة، لا في الوصف، على ما بين في الحكمة الإلهية. وقدّم الأشرف في مثلين، وهو الظل والحر؛ وآخر في مثلين، وهما البصير والنور، ولا يقال لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه. وفي المعنى: والشاعر قد يقدّم ويؤخر لأجل السجع والقرآن. المعنى صحيح، واللفظ فصيح، وكانوا قبل المبعث في ضلالة، فكانوا كالعمي، وطريقهم الظلمة. فلما جاء الرسول، واهتدى به قوم، صاروا بصيرين، وطريقهم النور، وقدّم ما كان متقدّماً من المتصف بالكفر، وطريقته على ما كان متأخراً من المتصف بالإيمان وطريقته. ثم لما ذكر المآل والمرجع، قدّم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب، كما جاء: سبقت رحمتي غضبي، فقدّم الظل على الحرور.
ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال: {وما يستوي الأحياء}: الذين آمنوا بما أنزل الله، {ولا الأموات}: الذين تليت عليهم الآيات البينات، ولم ينتفعوا بها. وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر. وأفرد الأعمى والبصير، لأنه قابل الجنس بالجنس، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد. فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به، لا بين الأفراد. وجمعت الظلمات، لأن طرق الكفر متعدّدة؛ وأفرد النور، لأن التوحيد والحق واحد، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال: الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور. وأما الأحياء والأموات، فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حياً، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات، سواء قابلت الجنس بالجنس، أم قابلت الفرد بالفرد. انتهى. من كلام أبي عبد الله الرازي، وفيه بعض تلخيص.
ثم سلى رسوله بقوله: {إن الله يسمع من يشاء}: أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان. ولما ذكر أنه {ما يستوي الأحياء ولا الأموات}، قال: {وما أنت بمسمع من في القبور}: أي هؤلاء، من عدم إصغائهم إلى سمع الحق، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم. فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق، فكذلك هؤلاء، لأنهم أموات القلوب. وقرأ الأشهب، والحسن بمسمع من، على الإضافة؛ والجمهور: بالتنوين. {إن أنت إلا نذير}: أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر.
فإن كان المنذر ممن أراد الله هدايته سمع واهتدى، وإن كان ممن أراد الله ضلاله فما عليك، لأنه تعالى هو الذي يهدي ويضل. و{بالحق}: حال من الفاعل، أي محق. أو من المفعول، أي محقاً، أو صفة لمصدر محذوف، أي إرسالاً بالحق، أي مصحوباً. قال الزمخشري: أو صلة بشير ونذير، فنذير على بشير بالوعد الحق؛ ونذير بالوعيد. انتهى. ولا يمكن أن يتعلق بالحق هذا بشير ونذير معاً، بل ينبغي أن يتأول كلامه على أنه أراد أن ثم محذوفاً، والتقدير: بالوعد الحق بشيراً، وبالوعيد الحق نذيراً، فحذف المقابل لدلالة مقابله عليه.
{وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير}، الأمة: الجماعة الكثيرة، والمعنى: أن الدعاء إلى الله لم ينقطع عن كل أمة. أما بمباشرة من أنبيائهم وما ينقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي تدل على أن قريشاً ما جاءهم نذير معناه لم يباشرهم ولا آباؤهم القريبين، وأما أن النذارة انقطعت فلا. ولما شرعت آثار النذراة تندرس، بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم. وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات، فإن ذلك على حسب العرض لأنه واقع، ولا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله وعبارته. واكتفى بذكر نذير عن بشير، لأنها مشفوعة بها في قوله: {بشيراً ونذيراً}، فدل ذلك على أنه مراد، وحذف للدلالة عليه. {وإن يكذبوك}: مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجمل في أواخر آل عمران. قوله: {فكيف كان نكير}، توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم.

1 | 2